الثلاثاء، 13 نوفمبر 2018

الثورات العربية ربيع عربي .... بخريف اقتصادي

القسم

الدكتور جواد كاظم البكري 
جامعة بابل/كلية الادارة والاقتصاد

الثورات العربية
ربيع عربي .... بخريف اقتصادي




مقدمة

أخذت التحليلات التي تناولت الثورات العربية تنحو منحىً منفرداً( متناولةً) الأبعاد السياسية لحركة الاحتجاجات الجارية في العديد من البلدان العربية، وما كان غائباً وما لم يحسب له هو البعد الاقتصادي.. وعلى خلفية الارتباط بين ما هو اقتصادي وما هو سياسي، يبرز السؤال الهام جدا: ما هي التداعيات الاقتصادية التي حققتها حركات التغيير السياسي العربية؟ وإلى أي مدى يمكن وضع وتقييم كشف حسابات الأرباح والخسائر المترتبة عليها؟ وماهي النتائج الاقتصادية لتلك الثورات في المديات القريبة والمتوسطة والبعيدة؟ وهل حملت تلك الثورات نتائج اقتصادية ايجابية؟ واذا كان أحد أهم اسباب تلك الثورات اقتصادية، فهل ستقوم النخب الجديدة بايجاد نماذج تنمية جديدة لأنتشال شعوبها من الوضع الاقتصادي المزري التي عاصرته ابان العهود الدكتاتورية؟
فمما لا لبس فيه أن أبرز مسببات الثورات كانت هي الضغوط الاقتصادية الشديدة التي يرزح تحتها السواد الأعظم من المجتمعات العربية في ظل مناخ سياسي يتسم بالفساد وخنق الحريات وتراكم الفشل في اخراج العرب الى بودقة العالم المتحضر ، وخير دليل على ذلك إن الثورات العربية اندلعت في 18 ديسمبر 2010 تضامنًا مع الشاب محمد البوعزيزي الذي قام بإضرام النار في جسده في 17 ديسمبر 2010 تعبيرًا عن غضبه على بطالته ومصادرة العربة التي يبيع عليها، ومن ثم قيام شرطية بصفعه أمام الملأ وقالت له ....إرحل، فأصبحت تلك الكلمة شعار الثورة لرحيل الرئيس بن علي و رؤساء آخرين. 
ولكن ماذا كانت توقعات الجماهير التي قامت بتلك الثورات وقدمت أغلى ماتملك وهي الحياة التي وهبها الله سبحانه وتعالى؟ كانت الجماهير تتوقع تحول نحو الأفضل سواء اكانت من الناحية السياسية أو من الناحية الاقتصادية، كانت تتوقع انخفاض نسب البطالة وارتفاع معدلات الدخل الفردي، وتحسين مستوى الخدمات، وخفض الضرائب على دخول الطبقات الوسطى والفقيرة.. الخ من الخدمات التي تحاكي بها شعوب المنطقة العربية شعوب المعمورة، كل هذا نتيجة لتوقع الجماهير استثمار الكفاءة في توجيه الموارد واستغلالها لمصلحة الجمع الأعظم من الناس في مناخ يتسم بالشفافية والمساءلة، وفي ظل توزيع أكثر عدلا للدخل وفرص أكثر تكافؤا للجميع.
عوامل حتمية التغيير في الشارع العربي
إلى جانب الأسباب السياسية للثورات العربية، هناك العديد من الأسباب الاقتصادية التي ساهمت في اندلاع هذه الثورات، حيث يلاحظ وجود مشكلات اقتصادية مشتركة مابين الدول العربية التي اندلعت فيها هذه الثورات في كثير من القطاعات الاقتصادية، والتي أثرت في جودة حياة الشعوب ودرجة رفاهيتها في هذه الدول، وفي مقدمة هذه الظروف حالة الإحباط التي أصيبت بها شعوب هذه البلدان بسبب ضعف نتائج برامج الإصلاح الاقتصادي بصفة عامة، وتسببها في العديد من المشكلات في كثير من القطاعات الاقتصادية، وإخفاقها في الحد من معدلات الفقر، وتوفير فرص العمل، ويمكن رصد أهم المؤشرات الاقتصادية التي تؤكد ذلك في الآتي.
تباطؤ معدلات النمو الاقتصادي وشعور المواطن في هذه الدول بأن مستويات المعيشة لا تتحسن بل تتراجع، ولا تتواكب مع ما تعلنه الحكومات من أرقام في هذا المجال، إضافة إلى عدم عدالة توزيع عوائد التنمية في هذه الدول بين الفئات المختلفة. 
ارتفاع معدلات البطالة بين الشباب وضعف نتائج برامج التشغيل في معظم هذه الدول، وهو ما جعل عدد كبير من الشباب في هذه الدول ييأس من سوق العمل، وتشير الأرقام إلى أن متوسط معدل البطالة في الدول العربية وصل إلى نحو 8% (يتراوح هذا المعدل بين 50 في المائة في جيبوتي ونحو 0.4 في المائة في الكويت)، وهو أعلى معدل عالمي، اذ بلغ العدد المطلق للعاطلين عن العمل في الدول العربية نحو 14 مليون عاطل.
ارتفاع معدلات الفقر وسقوط النسبة الأكبر من السكان تحت خط الفقر في العديد من الدول العربية، اذ بلغ معدل الفقر في فلسطين والصومال وموريتانيا والأردن واليمن والسودان نحو 40%، وتجاوز 21%في مصر، و 10% في سورية والعراق وتونس والجزائر.
تراجع جودة الخدمات العامة المقدمة للمواطنين في كثير من الدول العربية، مثل التعليم والصحة والمواصلات، وهو الأمر الذي كان له انعكاساته على جودة الحياة، وعلى طريقة فهم المواطنين للقضايا الوطنية، ويكفي هنا الإشارة إلى تفاقم معدلات الأمية في الدول العربية، التي تجاوزت 59% في العراق، ونحو 33.6% في مصر، ونحو 15.5% في سورية، ونحو 13.2% في ليبيا، ونحو 19.4% في تونس، ونحو 41.1% في اليمن.
ارتفاع معدلات التضخم ومعاناة الشعوب من ارتفاع الأسعار ونقص وسوء التغذية، وذلك في ظل الارتفاع غير المسبوق لأسعار السلع الغذائية، وكذلك في ظل فشل سياسات الدعم الحكومي في مساعدة الفئات الأكثر فقراً، حيث تشير دراسات البنك الدولي إلى أن 34% فقط من مبالغ الدعم الهائلة المقدمة في الدول التي شهدت الاضطرابات تذهب للفئات الفقيرة وأن 66% من هذه المبالغ تذهب للفئات التي لا تستحق الدعم.
أبعاد المشكلات الاقتصادية لدول الثورات
ان المشكلات الاقتصادية لدول الثورات العربية ثلاثية الأبعاد:
الأول: تواجه هذه الدول تراجعا واضحا في معدلات النمو ومن ثم في إيراداتها العامة، في الوقت الذي تميل فيه تكاليف المعيشة نحو الارتفاع لأسباب كثيرة، منها قيود العرض المصاحبة لظروف الثورة، وحرص الحكومات الجديدة على رفع الحد الأدنى للأجور دون أن يصاحب ذلك نمو مماثل في الناتج المحلي.
الثاني: هو العجز الكبير في المالية العامة لدول الثورات العربية بسبب تزايد الإنفاق العام الناجم عن حرص الحكومات على استيفاء الاحتياجات الأساسية للسكان وتحسين مستوياتها، في الوقت الذي تميل فيه الإيرادات العامة نحو الانخفاض بسبب تراجع معدلات النمو وانخفاض قدرة الممولين على دفع الضرائب، ويتسبب العجز المالي الحالي في ارتفاع الدين العام المحلي إلى مستويات غير مستدامة، وإلى حد ما الدين الخارجي.
الثالث: وهو التراجع الكبير في موارد النقد الأجنبي لهذه الدول، واستنزاف احتياطياتها منه نتيجة لخروج رأس المال وتراجع موارد النقد الأجنبي التقليدية، وبصفة خاصة عوائد السياحة، فضلا عن توقف تدفق الاستثمارات الأجنبية المباشرة نظرا للظروف السياسية غير الموائمة، فعلى سبيل المثال تتعرض موارد مصر الرئيسة من النقد الأجنبي حاليا لضربات حادة، خصوصا صادراتها السلعية وإيراداتها من السياحة، نظرا للتراجع الكبير في أعداد السائحين بسبب عدم الاستقرار السياسي والأمني الذي تتعرض له البلاد حاليا.
الانعكاسات الاقتصادية للثورات العربية
قبل البحث في هذا الموضوع، فقد حاولت وبكل قوة أن أبحث بين ثنايا البيانات والاحصاءات عن رقم أو معلومة واحدة ترشدني الى اكتشاف أثر اقتصادي ايجابي واحد افرزته الثورات العربية ولكن دون جدوى، فقد دلت كل المؤشرات الاقتصادية المتوفرة من المنظمات الاقتصادية الدولية أو المصادر الحكومية الى تدهور حاد في كل القطاعات الاقتصادية لتلك الدول، وفي ادناه فيض من غيض المؤشرات السلبية التي احاطت باقتصادات مصر وتونس وليبيا ومن ثم اثرها على الدول العربية بصورة عامة:
مصر
منذ بدء الثورة حتى الآن تراجع الاحتياطي المصري من النقد الأجنبي بنحو 19 مليار دولارا نتيجة لخروج رؤوس أموال أجنبية بمقدار 8.8 مليار دولار، ودفع 4.9 مليار دولار لخدمة الديون الخارجية المصرية (فوائد وأقساط سداد)، وتحويل 2.6 مليار من قطاع البترول ودفع 2.6 مليار لاستيراد السلع التموينية.
قدر العجز المبدئي للميزانية العامة المصرية في عام 2012 بـ 134 مليار جنيه (22 مليار دولار تقريبا)، غير أن التقديرات الجديدة تصل بهذا العجز إلى 182 مليار جنيه (30 مليار دولار) وهو عجز تنوء إمكانات الدولة عن تحمله على المدى الطويل، وللتعامل مع هذه الفجوة التمويلية الضخمة من العجز تفكر مصر حاليا في فرض ضرائب جديدة أو توسيع نطاق الضرائب القائمة بما في ذلك الضرائب على المستثمرين، وتعديل الضرائب الجمركية بما لا يخل بالتزامات مصر نحو منظمة التجارة العالمية، وهي جميعها إجراءات انكماشية لا تساعد الاقتصاد الوطني في مثل هذه الظروف وستؤثر سلبا في معدلات النمو المتوقعة، ناهيك عن ضعف حصيلتها المرتقبة في ظل الظروف الحالية وأخذا في الاعتبار درجة كفاءة الإدارة الضريبية في التحصيل.
على الرغم من إعلان الحكومة المصرية أنها ستقوم بتمويل جانب كبير من هذا العجز من خلال الاقتراض الخارجي لما يراوح بين 10 و12 مليار دولار، إلا أن هذه السيناريو تحوم حوله العديد من الشكوك، لعل أهمها توقف تدفقات المساعدات إلى الاقتصاد المصري بعد الثورة بصورة شبه تامة، كذلك فإن هناك نوعا من التباطؤ من جانب المؤسسات الدولية والجهات المتعددة الأطراف التي وعدت بإقراض مصر في إبرام هذه القروض، من ناحية ثالثة فإن انخفاض التصنيف الائتماني لمصر من قبل مؤسسات التصنيف الائتماني العالمية مرات عدة بعد الثورة إلى مستويات متدنية نتيجة لتردي الأوضاع السياسية التي تتفاقم يوما بعد الآخر تحت دوي هدير الجماهير في الميادين الرئيسة في مصر، التي على ما يبدو أنها غير مبالية بمآل الاقتصاد المصري وأوضاعه المتردية حاليا، سيؤدي هذا إلى ارتفاع درجة المخاطرة على معدلات الفائدة التي ستصدر بها السندات المصرية، ويجعل من خدمة هذه الديون الجديدة مسألة ذات تكلفة عالية للاقتصاد المصري، لذلك من المتوقع أن يتم تمويل الجانب الأكبر من هذه المستويات المرتفعة للعجز من خلال السندات المحلية، وهو ما سيؤدي إلى رفع الدين المحلى إلى مستويات كبيرة كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي، ويجعل معدل خدمة هذا الدين إلى الناتج أعلى من معدل النمو الحقيقي في الناتج المحلي، الأمر الذي يجعل الدين العام غير مستدام.
كشف أحدث تقرير للبنك المركزي المصري عن أن ديون مصر الخارجية ارتفعت الى 34.9 مليار دولار بنهاية يونيو 2010. وأشار التقرير، إلى ارتفاع رصيد الدين الخارجي المُستحق على مصر بـ 1.2 مليار دولار بزيادة نسبتها 3.6%، مقارنة بنهاية يونيو من العام 2010 عندما كان الدين الخارجي يقدَّر بـ 33.7 مليار دولار.
لن يتخطى نمو اجمالي الناتج القومي 1,2% عام 2011 بالمقارنة مع 5,1% عام 2010.
فقد الجنيه المصري نحو 3,8% من قيمته منذ اندلاع الثورة وحتى الوقت الحاضر.
رفضت الحكومة المصرية قروضاً من صندوق النقد الدولي من قبل، بعد أن وصلت الى اتفاق شبه نهائى بهذا الغرض، لكنها رأت أنه بإمكانها الاعتماد على موارد أخرى دون الحاجة لقرض الصندوق، مثل الاقتراض المحلى، ولكن مع زيادة تدهور الأوضاع الاقتصادية، وتراجع حجم الاحتياطى من النقد الأجنبى، وزيادة عجز الموازنة، دفع الحكومة إلى اللجوء مرة أخرى للصندوق اضافة الى الاقتراض الداخلي، وقد سبق لمصر أن اتخذت نفس الموقف فى برنامجها الثانى مع الصندوق، حيث رفضت اللجوء لقرض كان مخصصاً لها عام2008، وأكملت برنامجها الإصلاحى دون قروض.
بلغت قيمة الاستثمارات الكلية المنفذة في عام 2010/2011 نحو 229 مليار جنية بانخفاض نحو 3% عن العام السابق. 
بلغ معدل الاستثمار 16,7 %من الناتج المحلى الإجمالي مقابل 22,3% في عام 2007/2008 وبلغ نحو 19,5% في يونيو 2010.
خسائر قطاع الانترنت خلال الأيام الخمسة التي تم فيها قطع خدمات الإنترنت في مصر بلغت نحو 90 مليون دولار.
يمكن حصر الكلفة الإجمالية للخسائر كما أعلن عنها من قبل وكالة صينية بما يقارب سبعين مليار جنيه، و أن خسائر الاقتصاد المصري باتت تتفاقم يومياً جراء شلل القطاعات المالية والصناعية والخدماتية نتيجة استمرار الاضطرابات الجارية.


ليبيا
جاء في تقرير صندوق النقد الدولي ان ليبيا كانت تصدر 1,65 مليون برميل نفط يومياً قبل الثورة، أما الان فهي تصدر 600 ألف برميل يوميا فقط، وان ذلك سيؤدي انخفاض الايرادات النفطية بنسبة 63.6%، علما ان ليبيا تعتمد على الايرادات النفطية في موازناتها بنسبة 94.3%.
فقد الدينار الليبي 20% من قيمته مقابل الدولار لعدم قدرة البنك المركزي الليبي الحصول على العملات الاجنبية بسبب توقف تصدير النفط.
الناتج المحلي الاجمالي الليبي انكمش بنسبة كبيرة بلغت 60% في عام 2011 .
تونس
اصبحت نسبة النمو 0% عام 2011 بعدما سجل 3,1% عام 2010.
أظهرت بيانات المعهد التونسي للاحصاء ارتفاع مؤشر الرقم القياسي لأسعار المستهلك CPI في تونس إلى مستوى 5.7% منذ بداية العام 2012 وهو ما يعد أعلى مستوى لارتفاع الأسعار منذ 6 سنوات، اذ ارتفعت أسعار المواد الغذائية وحدها بنسبة 9% والطاقة بـ 8.1% والنقل بنسبة 4.7% فيما سجلت منتجات الملابس 3% وهي أقل نسبة ارتفاع.
ارتفع مؤشر كلفة أشغال صيانة و ترميم المنازل من نسبة 6.6% (إلى 14.9%) كما ارتفعت أسعار الإيجار في تونس بنسبة 4.6%.
سعر الإسمنت قفز من 5.8 دنانير العام الماضي إلى حوالي 12 دينارا للكيس الواحد حاليا – 4.3 دولارات إلى 8.8 دولارات
منذ اندلاع الثورة تراجعت السياحة التي تعّد أكبر مزوّد للنقد الاجنبي في تونس بنسبة بلغت 50%.
تقلصت الاستثمارات الأجنبية حوالى 20%، وأغلقت العديد من المصانع أبوابها، مما ساهم في زيادة عجز الموازنة، وتخفيض التصنيف السيادي وارتفاع كلفة الحصول على القروض.
أن عجز ميزان المدفوعات بلغ نحو 7%، بعد أن كان 2.5% قبل اندلاع الثورة.
تراجع نمو الناتج المحلي الإجمالي للاقتصاد التونسي بنسبة 2% خلال النصف الأول من عام 2011 مقارنة بنظيره في عام 2010، وذلك حسب «تقديرات أولية» للمعهد الوطني للإحصاء التونسي.
الانعكاسات الاقتصادية المرتبطة على المنطقة العربية
خسرت البورصات العربية 49 مليار دولار حسب منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية
شهدت المنطقة منذ بداية الثورات العربية حالة من عدم اليقين الشديد والضغوط الاقتصادية الكبيرة، سواء من مصادر محلية أو خارجية، وسيؤدي تفاقم الأوضاع السياسية بتلك الدول إلى زيادة هذه الضغوط، فقد قامت البلدان العربية سواء التي شهدت ثورات أم التي لم تشهد بزيادة إنفاقها لتلبية احتياجات الشعوب وتطلعاتها.
انخفاض حجم الاستثمارات الأجنبية في المنطقة العربية، بنحو 83 %، إلى أقل من 5 مليارات دولار، وذلك لتعطل دورة الإنتاج في عدد من تلك البلدان، ما أثر في حجم الصادرات، وتراجع السياحة إلى أدنى مستوياتها، وارتفاع البطالة والنقص الحاد في الوارد من العملات الأجنبية.
أن الحكومات في عام 2011 قد اضطرت إلى زيادة الإنفاق الجاري في المالية العامة على حساب الإنفاق الاستثماري لأنها صرفت مبالغ كبيرة في منح زيادات أجور وحمايات اجتماعية إضافية لمواطنيها.
وصلت خسائر الاقتصاد العربي بسبب تحولات الثورات العربية إلى نحو 56 مليار دولار في عام 2011، ومن المتوقع أن يتضاعف هذا الرقم خلال العام الجاري 2012 ويصل إلى نحو 120 مليار دولار.
ثورات دون فلسفة ( الاقتصاد ...المسبب الغائب)
عقد المنتدي الاقتصادي العالمي اجتماعين خلال شهر تشرين الثاني 2011 الاول في الو ظبي 10-11 والثاني في 21-23 في الاردن تركزت هذه الاجتماعات على مناقشة الاوضاع الاقتصادية في الدول العربية التي حدثت فيها ثورات لوضع نماذج يمكن تطبيقها لمواجهة التحديات الاقتصادية التي تواجه العالم العربي ولمعالجة الخلل في اقتصاداتها، تحدث خلالها ممثلون لدول مرت بهذه التجارب في أوروبا الشرقية وأمريكا الجنوبية، ضم المنتدي أكثر من 700 شخصية من 80 دولة.
من خلال استطلاع الخبر أعلاه نجد أن النخب العربية الحاكمة اليوم عادت من جديد الى الاشكالية السابقة ذاتها التي تقضي بتبني نماذج غربية للتنمية في الوطن العربي، علماً ان كل تلك النماذج فشلت فشلاً ذريعاً في انتشال تلك الدول من التخلف الى التنمية، فظلت حبيسة تلك التجارب الغريبة عن جسم الاقتصاد فيها، لذلك كان لزاماً على هذه النخب البحث عن تجارب تنموية تحقق هدفين:
الاول: ان تكون تلك التجارب نابعة من رحم الاقتصاد المحلي، بمعنى تتوائم والمناخ السائد في هذه البلدان من ثقافات ومثل وعادات وتقاليد، تختلف بالضرورة عن مثيلاتها الغربية.
الثاني: تقنين العلاقة مع صندوق النقد الدولي التي اثبتت التجارب الدولية السابقة بأمتياز فشله في تطبيق وصفاته الجاهزة للأصلاح الاقتصادي في دول المنطقة، اذ أن الصندوق اهم مايؤكد عليه هو فتح الابواب أمام الاستثمارات الاجنبية من رؤوس اموال وتقنيات إدارية وتكنولوجيات حديثة، ويتطلب ذلك تشجيع الوصول الى كل هذه الموارد من قبل المستثمرين الاجانب، اضافة الى ربط الاصلاح المحلي بالاصلاح العالمي، ونظراً لأن الاصلاح العالمي-بحسب رؤية الصندوق – هو تلك البرامج التي يتم تطبيقها في البلدان التي تخضع لوصفة المؤسسات المالية والنقدية الدولية الراسمالية، فإن جوهر هذه الأطروحة واضحة هنا: يجب ربط الاصلاح المحلي بعجلة الاصلاح العالمي المطبق تحت حراب تلك المؤسسات المشار إليها. 
فما يشيح به واقع تجربة البلدان المتحولة أو البلدان النامية الأخرى مع صندوق النقد الدولي من مثل (مصر، المغرب، المكسيك، البرازيل، الأرجنتين ...الخ)، أن الكلفة الاقتصادية والاجتماعية هي المعيار على بؤس الاعتماد على آليات السوق المنفلتة، بحيث أخذت المشكلات تتعمق وتتصاعد طردياً مع الزمن لتصبح عقبات كبيرة في طريق التطور اللاحق، اذ أن تجربة البلدان النامية مع التنمية ونظم الحكم المختلفة التي تفرض على مجتمعاتها هذه الفلسفة/ أو السياسة الاقتصادية أم تلك، أثبتت فشلها الذريع وكانت كلفتها باهظة لمجتمعاتها، ولم يعد باستطاعتها أن تدفع فاتورة فشل النظم وسياساتها التي لا تتسم بأية معقولية ممكنة، ، إذ أن الفشل بالإتيان ببرنامج اقتصادي عقلاني وواقعي ومنطقي لا يكون مبرراً لاعتماد برامج مفروضة من الخارج.
العوامل المحددة لملامح السياسات والتوجهات الاقتصادية لدول المنطقة خلال السنوات المقبلة
في ضوء قراءة أسباب هذه الثورات وما أفرزته من نتائج في الأجل القصير، وما يتوقع أن تفرزه في الأجل الطويل يمكن التأكيد على أن عوامل عدة ستحدد ملامح السياسات والتوجهات الاقتصادية لدول المنطقة خلا السنوات المقبلة، وأهمها ما يلي:
تراجع تبني الحكومات لسياسات الاقتصاد الحر وآليات السوق بشكلها المطلق، والتركيز على البعد الاجتماعي في السياسات الاقتصادية، وهو ما يعني تباطؤ برامج التخصيص أو تجميدها أو حتى الردة عليها، وتوسيع فرص التوظيف في القطاعات الحكومية بعد أن تم وقف التوظيف فيها مدة طويلة، أي أن نموذج (السوق فقط) سيتراجع لمصلحة نموذج (الدولة والسوق معاً).
اتساع برامج المظلة الاجتماعية التي تركز على محاربة الفقر والبطالة والأمية، وتوسيع برامج الدعم للشرائح الفقيرة، والبحث عن آليات جديدة لتوصيل الدعم لمستحقيه، والعمل على تحقيق العدالة في توزيع عوائد التنمية.
حدوث تغير في طبيعة العلاقة بين الحكومات والقطاع الخاص، وذلك من خلال ممارسة ضغوط على القطاع الخاص ليراعي الجوانب الاجتماعية في قراراته، وذلك لتوفير مزيد من فرص العمل للشباب، والحد من ارتفاع الأسعار من خلال تقليل هوامش الربح، والعودة لتوسيع الدور الرقابي للدولة على نشاطات القطاع الخاص، وربط السياسات المحفزة للقطاع الخاص بمدى مساهمته في تحقيق الأهداف الاقتصادية والاجتماعية للحكومات، واللجوء إلى العقوبات ضد سياسات القطاع الخاص التي تثير حفيظة المواطن، ناهيك عن اتخاذ نوعية من القرارات الاقتصادية الشعبية (التي تحظى برضا المواطنين من المستهلكين وطالبي العمل مثلاً) بغض النظر عن تأثيرها في القطاع الخاص أو في مناخ الاستثمار.
تغير العوامل التي تحكم الأبعاد الاقتصادية للسياسات الخارجية لدول المنطقة، حيث ستكون الأولوية للشركاء الاقتصاديين الذين يساعدون هذه الدول على تحقيق الأمن الغذائي، ويدعمون برامج التنمية الاجتماعية ومحاربة الفقر في دول المنطقة، وبذلك سيحدث تراجع للعامل السياسي في هذا المجال، وستحدث تغييرات عميقة في توزيع التكتلات الاقتصادية، وتوزيع التحالفات والاتفاقيات الاقتصادية لدول المنطقة في الأجل الطويل، وهذا التوجه إما أن يعيد الزخم للتكامل الاقتصادي العربي ولمنطقة التجارة الحرة العربية الكبرى، وللتجمعات الاقتصادية في الخليج والمغرب العربي بقوة، أو قد يدخل هذه التكتلات في عمليات فك وإعادة تركيب جديدة من أجل تحقيق المصالح السابق الإشارة إليها، أو قد يطلق رصاصة الرحمة على التكامل الاقتصادي العربي ويدفع بعض دول المنطقة للانضمام إلى تكتلات اقتصادية خارج المنطقة، وذلك وفق ما تقتضيه المصالح الاقتصادية في الظروف الجديدة.
قد يحدث تعارض وفجوة كبيرة بين دول المنطقة والمنظمات الاقتصادية الدولية المتخصصة، مثل الصندوق والبنك الدوليين، ومنظمة التجارة العالمية، وذلك بعد أن تراجعت ثقة شعوب المنطقة وحكوماتها بشكل كبير بنجاعة سياسات هذه المنظمات لتحسين الأوضاع الاقتصادية لشعوب المنطقة، وأن هذا الامر قد يدفع بالمؤسسات المذكورة الى تغيير توجهاتها وسياساتها الاقتصادية تجاه دول المنطقة، وذلك في ظل تركيزها على مراعاة الجوانب الاجتماعية في مسيرة التنمية، خاصة ما يتعلق بعدالة توزيع عوائد التنمية، وجودة النمو، ومحاربة البطالة والفقر، والتركيز على الاستثمار في التعليم، وذلك في ظل فشل سياسات التركيز على مؤشرات الأداء الاقتصادي الكلي والاستعاضة عنها بالتركيز على ما يعرف بمعايير جودة الحياة Quality of life 
الاستنتاجات
حتى هذه اللحظة فإن الثورات العربية، على الرغم من أنها قضت على أنظمة ديكتاتورية ذات سمعة سيئة، وفتحت المجال على مصراعيه أمام الخيارات الحرة للشعوب حول طبيعة وكنه من سيحكمونها، إلا أن تطورات الأوضاع على الأرض لا تبشر بالخير، وأن الثورات العربية قد( تمر بخريف اقتصادي طويل الاجل ) قبل أن تستقر الأوضاع وتتحسن قدرة تلك الدول على النمو والانطلاق نحو مستقبل جديد.
كي يتم تحويل الثورات العربية إلى فرصة حقيقية للنمو الاقتصادي لابد بدايةً من استعادة الاستقرار السياسي أولاً ثم الاستقرار الاقتصادي بالمنطقة العربية.
فيما يتعلق بجزئية المساعدات التي يوفرها صندوق النقد الدولي لدول الثورات العربية، نعتقد بشكل عام أن الأزمات المالية العديدة التي مرت بها العديد من دول العالم لفتت الانتباه إلى أهمية قيام الصندوق بمراجعة سياساته وبرامجه للإصلاح الاقتصادي والمبنية على توافق واشنطن بشكل عام، اذ لم تعد هذه الإصلاحات كفيلة باستعادة الاستقرار الاقتصادي والمالي، اذ برز من جديد ومن خلال هذه الأزمة دور مهم وقوي للحكومات لضمان سلامة البنيان الاقتصادي والمالي، فالعالم ينتظر من صندوق النقد الدولي في المرحلة الراهنة القيام بمراجعة شاملة لسياسات الإصلاح الاقتصادي على ضوء التطورات الدولية الراهنة وبما يسمح بالأخذ في الاعتبار لخصوصيات العديد من الدول وبالتالي فليس هناك دائماً وصفة جاهزة ناجعة للإصلاح، وإنما هناك في كل مرة فهم أعمق وأدق لطبيعة الظروف الاقتصادية وحدود المسموح والممكن من.
أن من أهم الحقائق اليوم تتمثل في أنه لن يكون هناك حسم في مسائل الاقتصاد قبل أن تحسم مسائل السياسة، ويتقرر من سيحكم تلك الدول وما هي الأيديولوجية التي يحملها وما هو المنظور الاقتصادي الذي يتبناه، بصورة مبدئية تشير أغلب التقديرات إلى أن القوى المرشحة للعب دور أكبر في الحياة السياسية القادمة لدول الثورات العربية هم الإسلاميون أولا يليهم بعض القوى الليبرالية واليسارية غير المتجانسة، وإذا جئنا إلى الإسلاميين وفكرهم الاقتصادي، نجد أنه عبارة عن توجهات عامة غير تفصيلية مع تفضيل واضح لنظام الاقتصاد الحر وخبرة محدودة في إدارة الدولة ورغبة في تبني سياسات تجلب الشعبية على المدى القصير، إما التيارات الأخرى فليست أحسن حالا؛ فهي أيضا أبعد ما تكون عن امتلاك مواقف محددة وبارزة تجاه قضايا الاقتصاد والتنمية، وربما يقود مثل هذا الوصف إلى استنتاج مفاده أن إرضاء الشارع والمواطن العادي وتخفيف العبء عنه سيكون البوصلة الأساسية التي توجه قرارات وسياسات أولئك الحاكمين الجدد في مجال الاقتصاد؛ وبتعبير آخر أن كسب الشعبية سيكون أصلا في التحرك الاقتصادي.
ان النخب الجديدة ستسعى الى تأسيس قاعدة اقتصادية ومادية لحكمهم في ظل التنافس السياسي المحموم والمتوقع بين الإسلاميين والعلمانيين ومحاولة كل طرف تثبيت ركائزه في السلطة، فسنجد محاولات لحيازة مواقع قوة اقتصادية لكي يستعان بها في التنافس السياسي، ومثل هذه المحاولات ستزيد من حدة الصراع الاجتماعي، كما ستطيح بمراكز قوة اقتصادية أخرى يحوز عليها المنافسون أو المحايدون، الذين لا يسايرون التوجهات التي ستكون لها اليد العليا في إدارة الدولة، كل هذه السيناريوهات، في حال حدوثها ، قد تضعف مصداقية الدولة، وتنفي عنها صفة الحياد الاجتماعي.
سيكون من قبيل المغالطة أن نتوقع سخاء من الدول الغربية أو المنظمات الاقتصادية الدولية تجاه دول الثورات العربية لو تولى الحكم فيها مجموعات إسلامية أو قوى راديكالية.
رغم أن الغرب يخشى ولا يتمنى انهيارا اقتصاديا يعقبه انتشار للفوضى وتصاعد للتطرف مع موجات نزوح وهجرة واسعة لأوروبا من هذه الدول، إلا أن الغرب سيراقب المشهد عن كثب وهو يتوقع أن يؤدي الفشل الاقتصادي وما يتبعه من سخط شعبي إلى محاصرة التيارات الراديكالية في عقر دارها والتضييق عليها تمهيدا لإلغاء خياراتها المتطرفة ودفعها إلى مواقع الاعتدال والواقعية، ولسان حال هؤلاء يقول: ها أنتم تسلمتم السلطة وملكتم الحكم والدولة فأرونا ما أنتم فاعلين؟

بالتأكيد، إن إسقاط نظام حكم غير صالح عملية أسهل بكثير من بناء نظام صالح وإدارة كفء، وهذا هو التحدي الذي تواجهه القوى والتيارات التي سوف يقدر لها أن تمسك زمام الأمور في دول الثورات العربية، فحساب الحقل ليس كحساب البيدر، والربيع الذي لا يزهر رخاء يدفع أصحابه إلى الزهد به سريعا.

'ا ' انا المحترف اليمني احب التطوير والتدوين واسعى الى تقديم الافضل لبلدي والامة العربية، ادعمونا بالضغط على الاعلانات


الابتساماتEmoticon